كتب :محمد أبوزيد
في ظل حالة الغضب المصحوبة بالغليان بعد الإعلان بشكل مبالغ فيه عن تأسيس مؤسسة مشبوهة تضم في عضويتها عدد كبير من الشخصيات المثيرة للجدل. تعيد المصير نشر مقال قديم للراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد قد نشره في صحيفة المصري اليوم في 30 - 7-2006,وكان المقال بعنوان "العقلانية العوراء و الليبرالية العرجاء.. الذي فضح فيه أبوزيد هذه النوعية من المثقفين المتواجدين في مؤسسة تكوين
وإلى نص المقال
✒ لا يستطيع الإنسان أن يظل صامتاً إزاء خطاب الليبراليين «العقلاء» في تحليل ما يحدث مما تقوم به إس.رائ.يل من تدم.ير وق.تل وتخ.ريب وهدم لمجتمع كامل اسمه «لبنان»، كان في وقت من الأوقات قبلة هؤلاء الليبراليين ومرتعاً لممارسة أهوائهم العقلية، حين كان لبنان بحق «هايد بارك العرب». هؤلاء العقلانيون لا يرون، أو بالأحري لا يريدون أن يروا، إلا «ج.ريمة ح.زب الله» الذي مارس حقه الطبيعي باخت.طاف جنود إس.رائي.ليين من أجل مبادلة الأس.ري اللبن.انيين الذين طال مكوثهم في س.جون إس.رائ.يل، رغم انسحابها الإجباري من أرض لبنان عام 2000. وهؤلاء العقلانيون أنفسم أصابهم «هَوَس» جماعي حين قرر الإخ.وان المس.لمون - في مصر والأردن وغيرهما من بلاد العرب - أن يتحولوا إلي حزب سياسي ويخوضوا لعبة «الديمقراطية» بحسب قواعدها المتاحة في ظل القوانين الاستثنائية وتقييد الحريات وحالة الطوارئ. تحول الهوس إلي «عصاب» بحصول الإخ.وان علي 88 مقعداً في المجلس، رغم البلط.جة والتزوير... إلخ.
في فلس.طين المح.تلة قررت «حم.اس» الانضمام إلي طابور «الديمقراطيين»، فحصدت أغلبية أصوات الفلس.طينيين، ومرة أخري أصابت لعنة «الهوس العصابي» جموع الليبراليين العقلانيين، فما هكذا تكون الديمقراطية، وما هكذا يجب أن تكون. الليبراليون العقلانيون في بلادنا يريدون الديمقراطية «التفصيل»، أو بالأحري يريدون «ديمقراطية» تأتي بهم إلي السل.طة دون أن يتجشموا عناء النزول إلي مستوي «العامة» أو «الرعاع» - أو بلغة أرقي «رجل الشارع» - والاختلاط بهم وتفهم أوضاعهم، والوصول إلي مكوناتهم الذهنية والثقافية والتعامل معها.
الليبرالي العقلاني العربي ابن البرجوازية التي تحتضر، أو التي ماتت، يحاول أن يتسلق سلم «العولمة» الاقتصادي والثقافي، فيتبرأ من تاريخه الحديث كله: حركة عُرابي كانت حركة شعبوية أدت إلي اح.تلال مصر، كانت الناصرية مغامرة أدت إلي الهزيمة، ح.زب الله يعيد حكم آيات الله ويخدم المصالح الإي.رانية، وي.ورط لبنان في مستنقع الد.مار، وح.ماس سببت الجوع والدم.ار للشعب الفلس.طيني.
في هذا الخطاب العقلاني الليبرالي الذي يتبرأ من تاريخه ويغسل يديه من عار «المق.اومة» - أي مق.اومة - تتمتع أم.ريكا وإسر.ائيل بالبراءة الكاملة: من حقهما الدفاع عن مصالحهما وعن أمنهما، من حقهما محاربة الإرهاب الذي يهدد الحرث والنسل، ولا يؤدي إلا إلي الخراب.
ولأنني عقلاني ومن دُعاة العقلانية، ولأنني ليبرالي كذلك، أؤمن بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنني كذلك منذ نعومة أظفاري أجدني غير قادر علي الصمت إزاء هذا التزييف المتعمد لقيم العقلانية والليبرالية. إن أهم سمات المفكر العقلاني الليبرالي التمتع بحاسة نقدية مرهفة، تجعله قادراً علي نقد نفسه ومراجعة مقولاته. من هنا قد لا أعترض علي النقد الحقيقي لتاريخنا ولثقافتنا وأوضاعنا، بل إنني أجد هذا النقد ضرورياً وجوهرياً وحيوياً لتحقيق التقدم. لكن لا أستطيع أن أتقبل النقد «الأعور» الناظر بعين واحدة إلي الحقائق: الخطأ هنا دائماً والحق هناك دائماً. ليس هذا نقداً، بل هو التزييف، لأنه يتبني دون نقد أيديولوجية الآخر.
يؤسفني أيها العقلانيون الليبراليون الذين ينظرون بعين واحدة، فيتمتعون بحاسة نقدية مفرطة تجاه الأنا، وعمي كامل تجاه الآخر، أن أعلن تبرؤي منكم ومن مواقفكم. ليست المقاومة مغامرة، بل هي الخيار الوحيد المتاح الآن أمام شعوبنا بعد أن انكشف وجه الدولة العربية الحديثة عن «تبعية مطلقة» ضد مصالح الناس. لم يفجعني موقف الأنظمة العربية قاطبة - والنظام المصري خاصة - ولم يفجعني موقف الغرب كله وراء أمر.يكا - إمبراطورية العالم الحديث - ولا يزعجني الجدل الداخلي بين أبناء ل.بنان، الذي تكاتف كل مثقفيه وكل سياسييه ضد الع.دوان رغم خلافاتهم. لكن يزعجني هؤلاء السادرون في تحليلات تبريرية للدولة التابعة وللأنظمة العد.وانية باسم العقلانية والليبرالية.
أنتم ضد «ح.ماس» وضد «ح.زب الله» وضد «الإخ.وان المس.لمين»، بسبب أيديولوجياتهم الدينية، وتخشون أن يؤدي نمو قوتهم إلي إنشاء دول دي.نية، لكنكم تتجاهلون الوجود الفعلي لدولة ليست دين.ية فقط بل عنصرية لأنها دولة للي.هود «فقط». في هذا الخوف العصابي من الداخل الدي.ني الإس.لامي، والاطمئنان المذهل في نفس الوقت لوجود سياسي دي.ني اسمه «إسرا.ئيل»، تكشفون أن ليبراليتكم وعقلانيتكم ليست زائفة فقط، بل هي عقلانية تخر.يبية. إنها العقلانية الأمر.يكية، حيث تكون الفكرة صحيحة بقدر ما هي نافعة. أيها السادة أنتم خائفون من «الإس.لام» وليس من الإس.لاموية السياسية. وأنتم غير قادرين علي إدراك أن الخيار الإس.لاموي للشعوب هو خيار المضطر، لا خيار الأحرار. اختار الفلس.طينيون «ح.ماس» من موقف اليأس من «أوسلو» التي ماتت ولا يريد أحد أن يعلن موتها، ومحاولة للتصدي للفس.اد المذهل للس.لطة الفلس.طينية مالياً وإدارياً وسياسياً. هذا هو اختيار المضطر - حسب تحليل الأستاذ هيكل في حوار بقناة «الجزيرة» منذ عدة أسابيع.
في مصر كما في غيرها من بلاد العرب، هل كان اختيار مرشحي الإخ.وان إلا محاولة للخروج من فس.اد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ماذا تبقي للمصريين من خيار؟ هذا ما يجب أن نتفهمه بالتحليل دون أن نصاب بالذُعر والعصاب. الإخ.وان فصيل سياسي مصري يجب التحاور معه، ويجب مساعدة قياداته الفكرية - أعني الفكرية لا السياسية فقط - بالحوار البناء علي تطوير فكرهم. معني الإس.لام ليس حكراً علي أحد، لكن الليبراليين العقلانيين سلموا ضمناً بأن معني الإس.لام مِلْكٌ للإخ.وان وحدهم، وأنهم في سبيل محاربة هذا المعني يسعون للقضاء علي الإخ.وان وعلي الإس.لام ذاته إن أمكن. مرة أخري هم أقل ذكاء من سدنتهم في البيت الأبيض، الذين يسعون لتأكيد أنهم ليسوا ضد الإس.لام ذاته، بل هم ضد الإر.هاب باسم الإس.لام. صحيح أنهم يصنفون كل أشكال المق.اومة داخل «الإر.هاب»، لكنهم يسعون أيضاً لمناصرة المعني الدي.ني الذي يتفق معهم.
ماذا عن «ح.زب الله»؟ هذا تنظيم نشأ في رحم المق.اومة وتغذي بلبانها، ولم يصوب بند.قيته أبداً ضد لبناني أو عربي، بل وتحاشي طوال تاريخه في الم.قاو.مة أن يمس المدنيين الإسرائ.يليين. الحرب الأخيرة دفعته دفعاً لتغيير هذا الموقف العقلاني/الأخلاقي، لأن إسر.ائيل لا تُحارب من أجل استعادة الأس.ري، بل تُدمر وطناً بأكمله، وطناً يمثل بتعدديته الطا.ئفية المتعايشة نقيض الوجود الص.هي.وني. من هُنا محاولات إس.رائيل المتعددة لتفكيك هذا الكيان في دويلات طائف.ية. يزعم الكاتب أنه متخصص في «تحليل الخطاب»، وخطاب ح.زب الله في إطار الح.رب الدائرة ليس طائ.فياً ولا دي.نياً في جوهره، بل هو خطاب تحرري وطني، خطاب عقلاني اسمه «الم.قاو.مة».
عقلانية الخطاب أيها السادة لا تعني اجتثاثه من جذوره الوطنية، ولا تعني تنكره للقيم الإيجابية في تُراثه الثقافي، بل ولا تعني استبعاد «العواطف» من أفق العقلانية. عقلانيتكم وضعية تجريدية تتصور الحسابات العقلية حسابات رياضية. في هذه الحسابات الرياضية تصبح المصالح الضيقة - الشخصية - هي معيار صواب «الأفكار». إنكم خائفون من فقدان مواقع هشة، ومن فقدان مُتَعٍ شخصية، أما مستقبل الأوطان فلا معني له عندكم. ألا ساءت عقلانياتكم ،وسحقاً لليبراليتكم، والنصر للمقاومة.